ما بَرِحتُ منذُ سنوات أبحثُ عن عَمَلٍ كمُدرّسٍ هنا في هذه البلاد وفي بُحبُوحَة الخليج وفي مناطق أخرى. لِحُسنِ الحظِّ يُمكنُ للمَرْء في أيامنا هذه أن يبحثَ عن فُرَصِ العَمَل المختلفة ويستكشفها عن طريق الشبكة والحاسوب ويطرقَ أبواب الخَيْرِ النائية كلّها حيثما كانت فَتَتَفتّح له مغاليقها. ذلك لأنّ الأرض قد أصبحتْ قريةً مُعَوْلَمَةً واحدة إذا صاحَ ديكُها في مَشْرِقِها سَمعُهُ الساهرون في مَغْرِبِها. لقد بعثتُ بعشرات الرسائلِ وقدّمتُ وثائقي وشهاداتي الجامعية وبُحوثي إلى هنا وإلى هنالك. وقد أمْعَنْتُ في الطَّلَبِ وإتصلتُ بأصدقائي الأقربين لَعَلّ أحداً يَعْرِفُ أحداً يَعْرِفُ أحداً يَعْرِفُ أحداً كي يَدُلّنِي على الباب أو يُومئ إليه. قالوا لقد أصبَحَتْ الحياة مثل المصفوفة يتحركُ البشر أو يُحَرّكُون على خيوط نسيجها بطريقة إهتزازية فإن أرِدْتَ الإنتقال إهتززْتَ لَعلكَ تحْتَكُّ بغيرك أو بخيوطها فتتحرك. أو قالوا شيئاً مثل هذا لا أعرفه. ورغم أني لمْ أستلمْ أي جوابٍ إيجابي إلا أنّني ما زلتُ أعلّلُ النفسَ بالآمال وأمنّيها. نعم، لقد أتاني كثيرٌ من الردود السلبية وذَهَبتْ أغلب رسائلي ومحاولاتي سدى. ورغم هذا، فأنا سعيدٌ مُغتَبِط ٌ متفاؤلٌ جداً. الكوكبُ رَحْبٌ والخَيْرُ كثيرٌ. قبل أسابيع وصلتني رسالةٌ من جامعة في جزيرة سانتْ مارْتن في البحر الكاريبي فيها دعوة للمقابلة وتقديم محاضرات لإختبار جَأْشي وتقييم قدراتي التدريسية. فَرحْتُ بهذه الفُرصة وشَدَدْتُ الرحال إلى الجزيرة. الخَيْرُ كثيرٌ.
كُنْتُ أفكّرُ طوال الطريق عما سيكون عليه الأمر وما إذا كانوا سيندهشون من بَسالَتي وقُدراتي ومهاراتي. كُنْتُ أحدّثُ نفسي وأتقلّبُ مبتهجاً ومكتئباً. وكي أطردَ الوحشة بادرْتُ جليسي وسألته عما إذا كانت هذه هي المَرّة الأولى التي يتّجهُ فيها صوبَ البحرِ الكاريبي فأجابني بأنها المرة الأولى وبادرني بنفس السؤال فعَجبَ جداً وغَبطني حين أخبرته أنني في طريقي إلى "مقابلة عَمَل". قال هذا غاية ما يمكنُ أن يحلُم به المَرْءُ. لقد إصْطَدْتَ العصافيرَ كلّها بحصاة واحدة: أنْ تعملَ وتعيشَ وتستمتعَ بأجواء الكاريبي. شعرتُ ببعض الإرتياح مؤقتاً ولكن سرعان ما إستحوذت عليّ الأفكارُ تأخذني عالياً وسافلاً. وقبل أنْ تهبطَ الطائرة تحدّثْنا مرةً أخرى وأتفقنا على أن أسوأ سيناريو يُمكن أن يحدث أثناء زيارتي هذه هو أنني لن أحصل على فرصة العَمَل هذه ولكنني سأكون في ختام الزيارة قد سُحْتُ وجُلْتُ في الجزيرة وأستجْمَمْتُ فيها وإستحْمَمْتُ في ماء البحر وستتولّد عندي ذكريات عن هذا المكان وناسِهِ وطَيْرِهِ ووَحْشِهِ وجَوّه ونباتاتهِ وأطعمتهِ.
"بلشون الليل، طائر من اللقلقيات" تصوير كامل جابر
حينَ هَبَطتْ الطائرة ورأيتُ البحرَ إزدادت هواجسي مرة أخرى وحينَ خطوتُ خطوةً خارج المطار في الجزيرة إشتدّتْ حيرتي فيما أنا قادم إليه وعليه. لو جاءَ كل شيء على ما أبتغي فهل سأنتقل إلى العيش في هذا المكان؟ وإذا لم أتمكّنْ من إغتنام هذه الفرصة فما الذي سأفعله؟ وأين أذهبُ بأطفالي الزُّغْبِ؟ بَدَتْ كلُّ حصيلةٍ مُمْكنة لهذه الزيارة تثير الفَزَعَ. هل لأن الفرصة قد دَنَتْ فأصبحتْ قابَ قوسين من يدي؟ هل أنني أحاول إستباق الخسران بهذا التبرير؟ كأنني سأخرج مَدحوراً من هذه الجزيرة إن غنمتُ وإن خبتُ. لقد سبق أن إنتقلت من مكانٍ إلى مكانٍ ثم عُدْتُ إلى المكان الأول ثم مضيتُ إلى مكانٍ ثالث آخر وآخر، ليس إنجذاباً إلى هذا المكان أو ذاك ولكن هرباً من الأماكن كلها. أو ربّما كان هذا لأنني في بحثٍ دائب عن شيء يُشْبُه الوطن. كلما إقتربتُ من مكان تنكّرَ لي أو تنكّرْت له. لقد مضى وقت طويل وأنا على هذه الشاكلة. أي بَدَوِيّ أنا! لقد أتْعَبَنِي التِرحالُ بَينَ المدن! أكلّ يومٍ يَمْحُلُ مَرْعايَ فأقَلْقلُ هَوْدَجِي أطاردُ مُزْنَةً شاردة!
الحَقّ أنا التّجَسُّدُ البشري لأمِّ القطط. القُطّةُ لا تهدأ في محلٍّ لها ولا تراها إلا في حركة دائمة لا تستقر في مكان. تتوجّسُ الأصوات والمخاطر فتنتقلُ خوفاً أو طمعاً وتنقلُ صغارها مَرَّةً تحتَ الحَطبِ قرب التّنُّور ومَرَّةً في ليف النخل بين الكرب أو بين شماريخ الرطب. ومَرَّةً في حُفْرةِ الكلبِ إذا غاب ومَرَّةً في معْلف الثور إذا شغر. ومَرَّةً في جيوب الملابس في الصندوق، ومَرَّةً في إزار أبي الصوفي على النضائد. ومَرَّةً في الطاسة الطافية في كُوز الماء ومَرَّةً في عش الفاختة فوق الصفصاف. ومَرَّةً في الخِرْج تحت أكداس السنابل ومَرَّةً في القنِّ تُزاحمُ الدّجاجَةَ الذهبية. ومَرَّةً في الفجوة بين كُرات العاقول المضغوطة ومَرَّةً هنالك قرب الباب في ظلّ الطِرْطَيْع. هذا ما كانتْ تعثرُ عليه وتلوذ به في بيتنا قرب البستان في حياتنا الأولى. لا تهدأ ولا تستقر أبداً كأنها إلكترون يسبحُ في مدارِ ذَرّةٍ، موجود وغير موجود، لا يمكنك تعيين موقعه ولا يَدُلّكَ على وجوده إلا أثر طاقته. ولأننا كنّا لا نستطيعُ تحديدَ موقع القطة في أية نقطة زمنية و كنا نراها في كل هذه الأمكنة هنا وهنا وهناك في آن واحد، فقد كنا نظنّ أن لدينا قططاً مختلفةً كثيرةً. أقولُ لك لو وقَفْتَ أنتَ في ركن البيت ونظرتَ إلى التنّور لرأيتها بجواره ولو نظرْتَ في عَيْن اللحظة التي تلاحظ فيها التنّور إلى عش الفاختة لرأيتها فيه. هي هنا وهي هناك في النقطة الزمنية نفسها. أقولُ لكَ لم يكنْ بإمكانك التفريق حتى لو فَتحْتَ عيناً وأغمَضْتَ أخرى إو إلتفتّ بسرعة يميناً وشمالاً أو أجْهدتَ نفسك راكضاً بين الأماكن أو وَقَفْتَ أنت هنا ووقف أخوك يرصُدها هنالك. لقد فعلنا هذا مراراً ولم ينفعْ ولم نَفُزْ بشيء ولم نتعلّمْ. ولهذا كانت أمي تنادينا أثناء الغداء أو بَعْدِه هكذا: خذوا هذا الطعام إلى القُطَّة قرب التّنُّور وخذوا هذا الطعام إلى القُطّة في النضائد وخذوا هذا الطعام إلى القُطَّة........ إلخ... إلخ. كان عند آل إسْوادي قُطّةٌ مثلها. هِيَ عَيْنها. هِيَ هِيَ. ولكن عبّاس كان يرى غير ذلك. وكان كسّاب يرى غير ما نرى وغير ما يرى عبّاس.
كان جدولُ زيارتي يَتَضَمّنُ فيما يَتَضَمّنُ لقاء أساتذة المكان وتناول الطعام معهم وإلقاء محاضرة والتطواف في الجزيرة. سأحدّثك عما رأيتُ وسمعتُ بمقدار إستطاعتي. قد أرى ما ترى أو ما لا ترى وقد ترى ما أرى أو ما لا أرى. وقد أسمعُ ما تسمعُ أو ما لا تسمعُ وقد تسمعُ ما أسمعُ أو ما لا أسمعُ. لهذا سَأحَدّثك بمقدار إستطاعتي.
تنقسم الجزيرة إلى قسمين: قسمٌ فرنسي وآخر هولندي. هذا يتبعُ فرنسا وذاك يتبع هولندا أو تربطهما علاقات ثقافية/سياسية/لغوية. وقد تغيرت عبر القرون أو تحسنت أو ضعفت أو قويت أو تحورت بشكل أو بآخر هذه الروابط بين شطري الجزيرة وبين هذين البلدين. يتحرك الناس من هذا الشطر إلى ذاك الشطر بحرّية تامة ولكن هنالك قيود وشروط للعَمَل هنا في هذا الشطر أو هنالك في ذاك الشطر. رغم أن الناس في هذا الشطر يتحدثون اللغة الفرنسية وفي الشطر الآخر يتحدثون اللغة الهولندية إلا إن اللغة الإنكَليزية شائعة جداً ويمكنك التحدث بها مع جميع سكان الجزيرة.
إلقتينا عشاءً في مطعم فرنسي قالوا أنه يزدهرُ في موسم السياحة فقط ويغلق بابه حين ينقطعُ السيّاح عن الجزيرة. جلسنا تحت مظلة من العصافة والقش. كُنْتُ أرى النجم من خلالها. كانت تجلس بجانبي إمرأة تلبس رداءً مثل أجنحة السّرْعُوفِ (قرّاص الخَصى). أسمها كاثْرِن. كانت ياقة قميصها مرتفعة جداً حتى أني حين نظرت إليها بأطراف عيوني بَدَتْ المرأةُ لي عديمة الرقبة أو كأن رأسها يجلس مباشرة على قفصها الصدري. كانتْ تكتحل بشيء رمادي يُطيل رُمُوشها، أعني يخلقُ هذا النوع من الكُحْلِ وَهْماً بَصَرِياً يجعلك ترى الرّمشَ طويلاً. ويمتدّ دقيقُ الكُحْلِ في الغضون الممتدة من زوايا عيونها إلى صدغيها. حين طابتْ الأجواءُ وسَعُدتْ الأمزجة، تحدّث كل واحد من الأساتذة عن حياته والأحداث التي خاضها في دروبها وكيف إستلّ نفسه منها بفعل حِكْمتِهِ وحنكَتِه. كُنْتُ مهتماً بكلّ حديث ولكنّي كُنْتُ خائفاً أن يأتي دوري في الحديث عما فعلته في حياتي. ليس ذلك لأني كُنْتُ أخشى أن يحكموا عليّ بناءً على ما أسرده عليهم من وقائع حياتي، بل لأنني ما زلت منهمكاً في مَعامعِ الحياة لا أعرف موطأ قدمي ولا أعرف ما إذا كُنْتُ مهزوماً أو منتصراً. ربما لهذا السبب ولهذا السبب ولأسباب أخرى. لهذا كلما تحدّثَ أحدُهم طَرحْتُ عليه أسئلة كثيرة وأبديتُ إعجابي بشجاعته وَبَأسِهِ فطالَ حديثهم وهكذا مَرّ الليلُ الطويلُ في الجزيرة دون أن يدور الحديث إليّ.
كُنْتُ قد طلبتُ لَحْمَ الضأن الحَلال المُذكّى وقد طَلبتْ المرأة التي تجلسُ بجانبي قدراً من الرخويات الصَّدَفيّة، بَلَح البحر. كانت قد طلبتْ القدر لأن الطاهي الفرنسي أخبرها بأنه ألذّ ما يكون، حدّثها بصوت شبه مهموس كي يُشْعِرَها بأهمّية هذا النوع من الطعام. قالَ لها أنه آخر قدْرٍ بقي عنده في تلك الليلة وقد إحتفظ به لأهمّيتِهِ. قال لها أن زبائن كثيرين قد طلبوه ولكنه أخبرهم بنفاده وقد غضبوا منه في تلك الليلة. إقتنعت المرأةُ بحديثه وتلمّظَتْ وطلبته. كانت تُفرجُ الصّدَفَتَين بإبهامها وسبابتها بيدٍ واحدة ثم تمتصّ الأحشاء بِشَفَتَيْها مباشرة مُحْدِثَةً صوتاً يجعلك تشعر أنها كانت تستمتع بالطعام. كان صوت إبتلاعها لبَلَحِ البَحْر عالياً لأنني كُنْتُ أسمعه عن بُعْدٍ عندما ذهبت إلى المرحاض. بعد أن فلّقتْ نصف الأصداف في القِدْر شعرتْ المرأة بإنشراحٍ وسرورٍ وإلتَفَتَتْ إلينا وعَرَضتْ علينا أن نشاركها ونذوق لحم القواقع. إلتقطتُ قوقعةً وفتحتُ مصراعي الصَدَفَة بقوة وبكلتا يَدَيّ وبجميع أصابعي وإمتَصَصْتُ مُحتواها مثلما كانت المرأة تفعل. كان مذاقها مثل مَخِيض اللبن. كنا منهمكين نأكلُ من الطعام وكان النادلُ يأتي إلينا بين الفَيْنَةِ والأخرى ويسألنا ما إذا كان كل شيء على ما يرام. كنّا نرفعُ رؤوسنا من الأواني ونُجِيبهُ مُرَدّدينَ هكذا: كل شيء لذيذ! كل شيء لذيذ! حَقّاً! حَقّاً!
وبينما كنا كذلك، سألتني المرأة هَمساً: هل أنت مسلم؟ حين طرحتْ عليّ هذا السؤال كانتْ في جيبي سُبْحَة دُرّيّة فأسرعْتُ ووضعتُ يدي خِلسةً عليها ودَسَسْتها في عمقه كي لا يظهر من خَرَزاتِها شيء. جاء سؤالها على إسْتِحياء. هل كانت المرأة في تلك الليلة ترغبُ في معرفة قصة الخلق مبدأها ومنتهاها؟ هل كانتْ تنشدُ سُبُلِ الإيمان فجاءتْ مُسْتَرْشِدةً؟ أنا بارعٌ ولديّ ما يكفي من الحُجَج والبراهين الدامغة. يا بُشْرى! سأرسمُ لها أعمدة الدين! سأهْديها إلى الرَّشاد.
ها قد طَرَحتْ عليك المرأة هذا السؤال وهاهي قد فرغتْ منه. طبعاً هو سؤال بسيط. ولكن بساطة السؤال لا تقتضي أن الجواب سيكون بسيطاً. الوسواس المزمن الذي ينتابني والأفكار التي تثقل ظهري صباحَ مساءَ تستلزمُ أن يكون الجواب طويلاً مُفَصّلاً. كأنّ عليّ أن ألقي خطبةً حماسية أوضّح فيها موقفي مما يجري وأسباب ما يجري، خَفِيّها وصَريحها، وأرسم تأريخ العالم كله وكيف جَرَتْ المقادير وكيف تشابَهتْ وكيفَ إختلَفَتْ شعوب الأرض وقبائلها، وكيف أن الساسة في الغَرْبَ قدْ أصابهم العمى فلا يرون الجلِيّ الناصع، كما أفعل في كل مرة. ولكنّي كُنْتُ قد تعلمتُ شيئاً من نَكَباتِي الكثيرة السابقة فأمْسكْتُ بزمام نفسي جيداً، أمسكتُ بنفْسِي بصعوبة، أمسكتها بقوة، وشرحت للمرأة وبيّنت لها أنني مثلها ومثل كل الجالسين أو أكاد أكون مثلهم. أي أنني لستُ من "أولئك" هناك بلْ أنا مثلها هي من هنا. أنا هنا ولست هناك. أنا أحد الجالسين في المطعم. أنا "نحنُ". أنا لسْتُ "هُمْ". حقاً لقد كان حديثاً شاقاً مُجْهداً. كأنني فريد زكريا الذي يظهر على قناة السِّي.أنْ.أنْ. حين يتحدثُ عن "نحن" و"هُمْ" فيتخبّلُ المشاهدون من الناس إذ لا يعرفون مَنْ "نحنُ" و مَنْ "هُمْ". هذا لأنه، أي فريد، يُشْبِهُـ"هُمْ" ولا يُشْبُهُ "نحنُ". إذا كُنْتَ تشْبِهُـ"هُمْ" فلن تملأ العين مَهْما تلوّنْتَ. لا، لا أعني أنْ تصطبغَ بغير ما أنت عليه. أعني حتى لو أزِلْتَ ما عليك مما يتراءى لغيرك كي تَتّضِحَ وتَنْصَعَ فلَنْ يُغْنيكَ ذلك شيئاً. شِنْشِنَةٌ فيكَ تُرعِبُنا. هذا ما تُمْلِيهُ علينا الغرائز.
كنْتُ أمضغُ الطعام ببطءٍ شديدٍ حتى لا أكون أوّلَ من يفرغ من طعامه كما يحدثُ كل مرة معي فأحارُ ماذا أفعلُ بعد ذلك. ما الذي تفعله إذا فرغتَ من طعامك والناس حولكَ يأكلون؟ أتُحاوِلُ التحديق في الصحون التي أفرغتها؟ أتُحاوِلُ أن تلتقط ما تبقّى في إناء الرز من حُبَيْبات قليلة تناثرت على الحافات؟ أتُحاوِلُ أن تعصر الكيس الصغير الذي يحتوي الصلصة الحمراء؟ أتُحاوِلُ أن تُكوّر المناديل التي إستعملتها وتغمسها في طاسة الحساء؟ أتُحاوِلُ أن تحتسي من قدح الماء وتديم بالمسح على فمك بالمنديل ثم تطلب من النادلة أن تجلبَ المزيد من الماء؟ أتُحاوِلُ أن تضربَ الملاعق والسكاكين ببعضها؟ أتنتظرُ كي ينبسَ أحدٌ مِمّنْ معك بكلمةٍ، أية كلمة، بصوتٍ، أي صوت، فتضحك له أو تستظرف ما بدر منه أو تُبدي إعجابك؟ أتُحاوِلُ أن تنظر في شاشة التلفزيون على الرف؟ أتُحاوِلُ أن تنظر إلى السابلة من الشبابيك؟ أتُحاوِلُ أن تجترح موضوعاً عن تقلّبات الجو في الآونة الأخيرة؟ أتزدَحِمُ عليك نوبات من التثاؤب فتكبحها مراتٍ ومرات ثم تستسلم لها؟ تضعُ ظَهْر يدك على فمك وتتثاءَبُ نِصفَ تثاؤب. أنا فعلتُ أو حصل معي/لي كل هذا في المرات السابقة وهو عندي من أشد أصناف العذاب. لهذا وهذا، كنْتُ أمضغُ الطعام ببطءٍ شديدٍ حتى لا أكون أول من يفرغ من طعامه. أنا حكيمٌ أتعلّمُ من التجارب.(عندما كنت في بيت أحمد، كنت أول من يفرغ من الطعام وكنت أنهض وأضطجع على الأريكة في الحجرة الأخرى، وكان أحمد يعْجبُ ويغْضبُ).
كُنْتُ أتحدّثُ إلى المرأة بلغة فيها مَجاز مُكثّفٌ وإستعارات كثيرة. أو هكذا ظننتُ. تظاهرتُ كأني ناسكٌ مُتَعالٍ أسكنُ الكهف في التلّ وآكل من أوراق الزُّعْرور النابت على السفح طوال حياتي ولا أعرف الكثير عن أحوال العامّة من الناس (كنتُ أغلي الأوراق في الماء على النار وأشربُهُ). أو هكذا ظننتُ أنها كانت تراني بفعل حديثي معها وبفعل سِحْرِ بَلاغَتي. إبتهَجَتْ المرأة لحديثي وإنشرحَتْ أساريرها وتنفستُ الصّعداء. فَرحَتْ وفَرحْتُ لفرحها. ذلك لأن طمأنينتي تنبعُ من طمأنينتها. ولكني ما إن فرغت من الإجابة على سؤالها حتى غَرَقْتُ في الوساوس وإعتركتْ في صدري الأفكار. الحقُّ أنا في عراك وسجال أبَدي مع نفسي سواء تحدّثَ إليّ الآخرون أم لم يتحدثوا. أستقبلُ يومي بمعارك شعواء وأختمه بمثلها. مثلاً، لو لَمْ تسألني المرأة ذلك السؤال لكنتُ قد أمضيتُ ساعات اللقاء كلّها في التساؤل والتفكّر عمّا تتساءَلُ عنه المرأة وعمّا يجول في خاطرها: في الوَهْمِ تَطْرحُ المرأة أسئلةً فأجيبها فَتَرُدُّ عَليّ وأرُدُّ عليها ونَحْتَدِمُ. أفْحمُها وتُفْحمُنِي. هل هذه البأساء التي أخوضُ غمارها كل يوم هي من صنيعتي ولا وجود لها خارج مخيلتي؟ قبل كل شيء، أنا هنا في مقابلة عَمَل فقط وحولي يجلس أناس طيبون قد رحّبوا بي ترحيباً حاراً حين لقيتهم. أنا لستُ في محكمة أدلي بحجج دفاعاً ودفعاً عن نفسي وتأكيداً لبراءتي. أنا دائماً أعكّر صفاء كل شيء. يَعرفُ هذا كَسّاب جَيّداً ويحذرُهُ. لا أدَعُ حجراً على حجرٍ. لو سَقطَ المَطرُ من السماء لَفَتّشْتُ في طَبَقاتِ السّحابِ وناديْتُ: من هذا الذي سكَبَ الماءَ على رأسي؟ أنا أنا أرْبَكْتُ ملائكة المطر فإحْتبسَ الغيثُ وماتَ الكمأُ. هلْ أنْتَ تَعْرِفُني؟ طالما ماطَلْتُ نفسي وَوَبّخْتها. هل مرّ يومٌ لَمْ أفْعلُ هذا؟ أتَذْكُرُ الرَّجُلَ الذي نظرَ إليك شزراً عندما كُنْتَ تَستقلُّ المصعد يوم الخميس الماضي في طريقك إلى عَمَلك في الطابق الخامس؟ لم يكنْ ذلك الرّجُلُ يفكرُ بك لأن مَلامِحُكَ قد ذكّرَته بأحداثٍ هَيْمَنَتْ على نشرات الأخبار طوال هذا الشهر. كان الرّجُلُ يفكر بحياته. الحقّ أنه لمْ يَرَكَ حين كُنْتَ معه في المصعد. نعم إنه كان يرى أن هنالك هيكل شَخْصٍ يشغل مكاناً ما في المصعد ولكنه لم يكن يفكّرُ بهويّتك وماهيّتك. كان يفكر بما كان عليه أن يقوم به في ذلك اليوم. هل حقٌّ هذا؟
قالتْ المرأة إن لديها صديقة باكستانية مسلمة تعيشُ في الجزيرة. وقالتْ هي صريحة صادقة في إجابتها عن الأسئلة التي تتعلق بدينها. وقالت أنها لا تخفي أية أسرار تتعلق بدينها. وقالت وأكّدتْ إنها مسلمة جيدة لأنها لا تخفي أية أسرار تتعلق بدينها. كانتْ المرأة مُتلهفة لمعرفة المزيد من الأسرار. هل وُفّقْتُ في الكشْفِ لها عما كانت تنشده أو لا تعرفه من غوامض الدين؟ قالتْ المرأة تخرجُ من كل مِلّة عصْبَةٌ سيّئة. قالت هذا كي تبدي تعاطفاً أو تواطئاً معي أو كأنها كانت تسمعُ جَيَشان صدري.
في اليوم التالي كان عَليّ أن ألقي محاضرة. هذا أهمُّ شيء في هذه الزيارة إذْ كان الغرضُ تَحْديدَ بسالتي في التدريس. حِينَ صَعدتُ على المنصّة نسيتُ ما كُنْتُ أودُّ الحديث عنه. لقد نَسَيْتُ كل ما كُنْتُ أنوي طرحه والتوصّل إليه هنا. آه! لقد نسيتُ خَيْط أفكاري. كأنني أصِبْتُ بسُعارٍ. كَلَبٌ عُضالٌ. إنتابَتْني رَغبةٌ شديدةٌ في العَضّ. وَدَدْتُ أنْ أهيمَ على وجهي و أعَضّ كلَّ من أرى. عَيْنِي حمراء ولُعابي يتقاطرُ من فمي، مثل الكَلْبَةِ التي قَفَزَتْ من تحت سكّة القطار، قطار الكلس، وَعَضّتْ المرحوم حَدّواي ثم رَكَضَتْ وراء القصّابين فَتَشَبّثُوا بكلاليب مِن نُحاسٍ مُدلاة من سَقْفِ المَسْلخ كي لا تعضّهم. قالوا وضعوا حدّواي في قَفصٍ كي لا يعضَّ الطبيبَ والمرضى. وكتّفوه بالحدائد والسلاسل كي لا يعضّ أطرافه. كان يحرّك رقبته ويُديرها كي يعضّ لحم كتفيه وترْقوَته حتى مات. ولم يستطعْ حتى إبنه من لمسه والحديث إليه. كان كل ما يريده هو أن يَعضّ. أحرقوا ملابسه وثيابه بعد وفاته كي لا تنتقل العدوى..... كنا صغاراً .....هكذا حدثونا.( لقد إمتهنَ إبنه تهريب البنادق والرصاص فيما بعد، ينقل هذا متخفياً في سواقي الماء من مكان إلى آخر).
بينما كُنْتُ في خِضِمِّ الذُّهان هذا، تَحرّكْتُ على المنصّة ونظرتُ إلى جمهور الطلاب يحدقون بي وينتظرون حديثي. شعرتُ أنهم لا يرون ما كُنْتُ أراه وفي تلك اللحظة شعرتُ أن لدي ما يكفي من الرزانة والوقار. أدرْتُ مثل الشجاع مؤشّرَ الليزر على الشاشة وبدأتُ أعرضُ بسالتي وأشرحُ فقرات الموضوع وأتبَخْتَرُ. تحدثتُ عن النّوى و تركيب الجُسيْم الحالّ في الخلية ووظيفة الجُسَيْمِ التأكْسُدي وإشارات الكالسيوم التي تفيض من الشبكة الإندوبلازمية إلى المايتوكندريا وكيف يحدثُ موتُ الخلية المُبَرْمج. تَحدّثتُ عن هذا وهذا وأشياء أخرى.
حين فرغتُ من المحاضرة جَلَستُ وقلتُ لنفسي عليك من الآن فصاعداً ألا تقلقَ على أي شيء. كل شيء في حياتك سيكون على ما يُرام. من الآن فصاعداً عليك أنت تتفاءل. كل شيء سيكون على ما يُرام ولكن عليك أولاً أن تتفاءل. الآن الآن عليك أن تتفاءل. سيتغير لون كل شيء إذا تفاءلت. سيكون كل شيء على مايُرام. وبعد كل شيء فأنت إنسانٌ طيبٌ وصالحٌ. إضحكْ وقَهْقهْ وإبتسمْ. أضحَكْ.. أضْحَكْ.. صفّقْ بيديك. صفّقْ بحرارة. إنهضْ من مجلسك وإرفعْ يديك أمام وجهك وصَفّقْ. وأنتَ واقفٌ تُصفّقُ إلتفتْ يميناً وشمالاً كَمن حَوله حَشدٌ من الناس يصفّقون. أنتَ إنسانٌ طيبٌ وصالحٌ. أنتَ تستَحقُّ كل هذا التصفيق. وقبل أن تجلس إلتفتْ يميناً وشمالاً ونُدْ برأسك كمَنْ يُحيّي جمهور المصفّقين ويبدي لهم إمتنانه العميق. إفْعَلْ هذا وأنتَ في طريقكَ إلى الجلوس، أي في اللحظة التي تثني فيها ظهرك وتحدّق في موطأ ألْيَتَيكِ كي تتأكّد من وجود المقعد في مكانه. رجاءً تَذكّرْ أن عليك أن تستمرّ في التصفيق من اللحظة التي تنوي فيها الجلوس، أي اللحظة التي تعلن فيها لنفسك بأنك قد وقَفتَ وصَفّقتَ لوقت كافٍ وأثناء هبوطك مستسلماً للجاذبية وحتى إستقرارك الكامل في مجلسك. إستمر في التصفيق. رجاءً تذَكّرْ هذا. وتَذكّرْ أن تلتفتَ يميناً وشمالاً وتنودَ برأسك كَمَنْ يُحيّي جمهور المصفّقين. عندما تطمئن في مجلسك، إلتفتْ إلى يمينك ومِلْ بجسمك إلى الرَّجُلِ الذي على يمينك وأمْدُدْ برقبتك على أن تكون أذنكَ اليمنى هي ما يتقدم من رأسك تجاهه. الرَّجُلُ الذي على يمينك يريد أن يهمس لك بإعجابه الشديد بك. وبعد ذلك إلتفتْ إلى الرَّجُلِ الذي على يسارك ومِلْ بجسمك شمالاً وإمْدُدْ برقبتك على أن تكون أذنك اليسرى هي ما يتقدم من رأسك صَوْبَهُ. الرَّجُلُ الذي على يسارك يريد أن يخبرك همساً بإعجابه الفائق.
وأنت تصغي لمن يهمس لك على يمينك وشمالك وسط ضجيج الصفير وصخب التصفيق قد يحصل أن تلمح أحدهم يجلس في المقاعد الخلفية. آه! كأنما إنطلقَ شعاعٌ من عيونك وإصطدم به وسمّرَكَ وثبّتَكَ في مكانك. يبدو وجهه أليفاً عندك ولكن لا تتذكر إسمه بالضبط. كأنما جاء من الغَيْبِ. مَنْ هو؟ هل كان معك في المدرسة؟ ألا تتذكرُ هذا؟ كيف نَسَيْتَ؟ من هذا؟ هل هو بائعُ الفجْلِ في الشِّنافية؟ هل هو الرجل الذي كان يبيعُ الشخّاط وبُذورَ عَبّاد الشمس في باب السوق؟ كان يتأبَّطُ دائماً عصا في نهايتها كتلة كروية متماسكة من القير والحصى. ما جاء به إلى هنا؟ ما الذي يفعله هنا؟
شيء ما في وجهِهِ يذكرّكَ بحياتك الأولى عندما كُنْتَ غراً. هل حقاً نَضَجْتَ الآن؟ هل تشعر الآن بحياء أو بخجل غريب؟ تلك لحظة تنبجس فيها وساوسك. مَنْ هذا؟ مَنْ هذا؟ مَنْ هذا الذي يحدّثني؟ مَنْ هذا الذي يرمي عليّ بتلك الأسئلة؟ هل كُنْتَ تعيش في الخارج؟ متى خَرَجْـتَ؟ هل خَرَجْتَ عن طريق الأردن؟ متى؟ هل كان أمر خروجك إلى الغرب سهلاً؟ هل حَصَلتَ على جنسية؟ هل يعطونكم مساعدات؟ كم يعطونكم من نقود؟ في الدنمارك يعطونهم الكثير من النقود. ما نوع سيارتك الجديدة؟ كم مِنْ بيتٍ إشتريتَ؟ هل تنوي العودة إلى البلاد؟ هل أن زوجتك إمرأة أجنبية؟ كيف يمكن الحصول على لجوء عندكم مثلكم؟ هل أنت من رجال الأحزاب؟
مَنْ هذا؟ لقد كان معكَ في المدرسة. ألا تتذكّرُ هذا؟ كيفَ نَسَيْتَ هذا؟ لا تَبْتَئِسْ ...لا عليك.. لا تَبْتَئِسْ. فَقطْ لوّحْ له بيدكَ مُحيّياً كمن يعرفه. لوّحْ له ثم أدِرْ بوجهك بعيداً عنه. سيكون عندك متسعاً من الوقت للتعرف عليه عن كثب فيما بعد. حتى هذه الفكرة تُرِيبُكَ.....لا تَقْلقْ... لا تَقْلقْ... يُمْكنُكَ تَجَنُّبَهُ في فترة الإستراحة حين يخرج الناس لتناول العصائر والقهوة والكعك. كيف تَتَجَنّبُهُ؟ في الإستراحة إنْهَمِكْ في الحديث مع آخرين غيره. تَحاشَ أنْ تصطدم َعيونك بعيونه مرة أخرى. إذا كان لا مفر من الحديث إليه فحين يسألك عن أحوالك: كيف حالك؟ أين أنت ؟ ماذا تعملُ؟ حاولْ أن تُضْفِي الغُمُوضَ على أجوبتك وحاولْ أن تكون أجوبتك قصيرة. إذا تَحَدّثَ عن الأماكن، فأشْرْ إليْها بإستخدامِ الإختصارات الحروفية (أول حرف من كل كلمة في إسم الشيء أو عنوانه). ستُرْهِبُهُ معرفتك بالإختصارات. سَيظنُّ أنّكَ كَبيرٌ. سَيَتَصاغرُ وَيَتَقهقرُ. حَقّاً، أنتَ رَجُلٌ مُحْتَرَمُ. تَحَدّثْ بصوتٍ واطئ كي لا يميّز لكْنَتَك الشرقأوْسَطية وتَصغرُ في عينه. آه! لقد أمْضيتَ ربع قَرْنٍ من الزمان في هذه البلاد ومازلتَ تلكنُ وتلحنُ كأقبح ما يكون. آه! لقد تذكرتَ الآن ما يؤرقك. لا تثريب عليك اليوم. أنْتَ إنسانٌ طَيّبٌ وصالِحٌ. حقاً أنت تستحق كل هذا التصفيق. أنْتَ إنسانٌ طَيّبٌ وصالِحٌ. سيكون كل شيء على ما يرام بعد الآن. إزدَرِدْ هذه الحلواءَ والكَعْكَ وأشْكُرْ. سيكون كل شيء على ما يرام بعد الآن. أقولُ لكَ كُفّ عن هذا. أنتَ رَجُلٌ وعِنْدَكَ شوارِب كَثّة.
تقتضي خطة البحث عن العمل أن تقوم بإجراء المقابلة وما تشمله من فعاليات ونشاطات ولقاءات وبعد ذلك تذهبُ من حيث جئت. إذا راقَ لهم أداءك أو إذا لم يجدوا من هو أفضل منك دَعوكَ وعرضوا عليك كي تلتحق بهم. ستعرف هذا بعد وقت يطول أو يقصر. إذا لم تسمعْ منهم بعد فترة طويلة، حَدّثَتْكَ نفسك أنهم ربما قد رفضوك وأخذَ الفرصة طالبُ عَمَلٍ آخر. إذا كانَ هذا هكذا فَلِمَ لا تتصل بهم مُسْتَخْبِراً بَعْدَ حين؟ أنت لا تفعلُ هذا وتخشى الإتصال لأن ذلك قد يؤكد شرّ ظنونك. لهذا فأنت لا تفعل شيئاً بعد المقابلة وتعيش أيّامك مثل العليل المشلول. تَنْتَظِرُ وتتمنى. مثل العليل المشلول. قد يطولُ إنتظارُك وقد يقصر وقد يسفر عن مرابع خُضْر أو سرابٍ يَسطعُ. إذا كُنتَ تنتظرُ أشياءً كثيرة في حياتك فأنا أرى أن تذهب في هذه الساعة إلى السوق وتَشتري لك حزاماً مُرَبّعاً وتشدّ به ظهرك وفقراتك. إحْذرْ أن ينقطع نخاعك الشوكي من شدّة الإصْطبار.
حين أتْمَمْتُ المقابلة بقيتُ على الجزيرة ثلاثة أيام كي أستريحَ وأتنقّهَ وأطوفَ فيها، أو أتسوّق مثلاً. للجزيرة ألْسِنَةٌ أو أذرعٌ من اليابسة تمتدّ إلى البحر بإتجاهات مختلفة. ينخفضُ بعضها فيغمره الماء ثم يرتفع مرة أخرى. وهكذا تبدو الجزيرة الرئيسية محاطة بجزر صغيرة من كل إتجاه أو إذا نظرتَ في أي إتجاه لا يمكنك أن تحزرَ ما إذا كان ما تراه من بُقَعِ اليابسة هي إمتداد للجزيرة الرئيسية أم أنها جزرٌ أخرى مُسْتَقلة لا تَمِتُّ للجزيرة الكبرى بأية صلة. الحقُّ إن هنالك جُزرٌ من هذا النوع وجُزرٌ من ذاك النوع. إذا تمعّنتَ في خارطة البحر بَدْتْ لك الجزيرة وما حولها وكأنها فَتِيتُ حِجارةٍ نَصَبَتها يدٌ كبيرة في الماء. لا شيءَ يجعلك تعزفُ عن التدبّر والتفكّر بهذه المعجزة الجيولوجية البالغة إلا تذكرك حياتك، أو كأن تكون عندك مقابلة عَمَل، مثلاً.
حين نظرتُ إلى الجزر التي لاحتْ لي في الأفق بدتْ لي مثل القرى أو مثل بساتين النخيل التي كنا نراها في المدن التي جئنا منها. كلما مشيتُ صَوْبَها إبتعدتْ كأنها تمشي مثل الشجر في الجرعاء. حين أمْعَنْتُ في السير ضَلَلْتُ الطريق. وحين هَرَعْتُ إلى العودة إستدارتْ الجزيرة وتشابَهَتْ في عَيْنيّ كل أطرافها وخلجانها. مِنْ أين جئتُ؟ إلى أيْنَ سأذهبُ؟ هل جِئْتُ مِنْ هنا أمْ مِنْ هُناك؟ أيْنَ أنا؟ هل أنا في الجزيرة الكبرى أمْ في إمتداداتها؟ هل أنا في الجزيرة الأولى أم في الجزيرة الأخرى؟ مِنْ أيْنَ تُشرقُ الشمسُ؟ كَيْفَ تَهبُّ الرّيحُ؟ بَعْدَ أنْ أعياني البَحْثُ رآني أحَدُهُم كان يتزلّجُ عارياً مُسْرِعاً على لَوْحٍ له عجلات صغيرة. أحسّ بضياعي فأرشدني.
أثناء إقامتي في الجزيرة كُنْتُ أسألُ كلَّ من أراه كي تزدادَ معرفتي بالمكان. كُنْتُ أريد أن أعرف تكاليف المعيشة والسكن والمواصلات والإتصالات، بل سألتُ الناس حتى عن حركة الأعاصير وزوابع المطر. لم أسألْ أي أحد يعيش على الجزيرة إلا وأخبرني أنه قد قدم من جزيرة مجاورة أخرى وأشار بيديه إلى جهة ما، كأنه يريد أن يخبرني بأن موطنه الأصلي ليس ببعيدٍ جداً من هنا. قد جاءوا للعَمَل هنا أو جاء آباءهم أو أجدادهم من قبل من جزر قريبة أخرى. إن أكثر شيء أثارني هو أنهم لا يعيرون أية أهمية لجميع العالم الآخر أو كأنهم لا يعرفون أي شيء عن القارات أو الحوادث السياسية فيها أو النزاعات التي تكتنف العالم القديم والعالم الجديد. أي أنهم حين يتحدثون إليك أو فيما بينهم أو حين تتحدثُ إليهم ترى أنهم لا يعرفون إلا طُرُقَ الحياة في عالمهم المنخفض وكأن القارات التي نعيش عليها هي كواكب أخرى تسبحُ بعيداً عَنْهُمْ في المجرّة. يبدأ يومهم صَباحاً في الجزيرة وينتهي مساءً عليها. الشمْسُ تشرقُ وتغربُ لَهُمْ ولديمومتهم، والماء الزلال تجلبه الغيوم. حَسَدْتُهُمْ ولكنّي تساءلتُ: هل وَصَلَتْ الرُّسُلُ إليهم؟ هلْ يعرفون أداءَ المناسك؟ حَسَدْتُهُمْ. نَحْنُ هنا على هذه اليابسة نعيش في قارة ويقضُّ مضجعنا ما يحدث في قارةٍ أخرى. إذا حدثَ أنْ هربْتَ من قارة إلى قارةٍ أخرى تَبعَكَ الذي هَرَبْتَ منه مثل ظلك، ماهيّتك التي لا إنفصالَ لك منها وعنها.
لقد سُحْتُ في الجزيرة وأشرفتُ على خلجانها كلها. كانتْ كلّ طُرُقها المُعبّدة مُتَعَرّجَة وتحيطُ بها الحجارة. نُضِدَتْ الحجارة على هيئة جدار ربّما ليمنعَ السيارات من الخروج من الطريق والسير على تراب الجزيرة. رَأيْتُ نساءً عاريات يَضَعْنَ الأطواق على خَواصرِهن ويرْقُصْنَ بحركة لَوْلَبِيّة فتدور الأطواق وتشعّ ألواناً مختلفة. رَأيْتُ رجالاً مُكَمّمينَ يَضَعُون البَبَغاوات على أكْتافِهم. ورأيْتُ أشْياءَ أخْرى وأُخرى ورأيْتُ ورَأيْتُ. حِينَ رَأيْتُ كل هذا، وحين رَأيْتُ السيّاحَ على الرمْلِ يرتدون ألْبِسَةِ البحر العجيبة المُلوّنة وتحيطُ بهم نباتات لها ثمار تشبهُ مناقير البَطّ وتُظَللهم أشجارٌ باسقةٌ تتدلّى منها عناقيد يقطرُ منها في أفْواهِهم سائلٌ دافئ يشبه اللّبَأَ، غَنّيْتُ أغنية المُتَنَبّي:
مَغانِي الشِّعْبِ طِيباً في المَغانِي
بِمَنْزِلَةِ الرَّبِيعِ مِنَ الزّمانِ
وَلكنّ الفَتى العَرَبِيّ فِيها
غَريبُ الوَجْهِ واليَدِ واللِّســـانِ
مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَوْ سارَ فِيها
سُلَيْمان لَسارَ بِتُرْجُمــــانِ
∫♪♫♪♫∫♫♪♫♩∫
∫♪♫♪♫∫♫♪♫♩∫
حين مَشَيْتُ في الأدغال كانت زواحف الأغوانا تتقافزُ من على جانبي الطريق. رأيتُ عظاءةً تجثمُ على شجيرة دفلى قُرْبَ السُّورِ فخفّفْتُ وَقْعَ أقدامي وإقتربتُ منها بحذرٍ. جلستُ أنتظر ما الذي ستفعله. هل تنتظرُ فريسةً غافلةً، مثلاً؟ هل ستبيض أو تتسافد، مثلاً؟ هل تنوي الدفاع عن إقليمها ضد الكائنات الأخرى؟ عجبتُ فقد إنتظرتُ ساعات وساعات حتى أحرقتْ شمس النهار ظهري ولم تتحركْ هذه العظاءة قيد أنملة. بَدَتْ لي مثل إنسان أُسْقِطَ في يَدِهِ، حائر خائر لا يعرف ماذا يفعل، أو مثل إنسان يفكّر ما إذا كان قد أجادَ في مقابلة عَمَل في مكان بعيد. في البدْءِ خفتُ من العظايا ولكنهم قالوا إنها غير سامة أو أنّها لا تعضُّ ولا تلدغُ بل قالوا هي ليست من اللواحم ولن تقربك أبداً.... إلخ. وقالوا لا توجد أفاعي في سانت مارتن. قالوا أكلها النمس كلها. أخبرتني بهذا رئيسة قسم الأحياء في الجامعة، المرأة التي عندها بيت كبير في تكساس. تَزْرعُ فيه الضفادع.
وقالوا أن الجزيرة قد تكونت بفعل حركة الصفائح التَّكْتُونِيّة وثَوَران البراكين في الأزمنة الأولى. أي أن الجزيرة اليابسة قد خرجت من البحر ولهذا فإن جميع ما عليها من نباتات وحيوانات قد جاءها بطريقة أو بأخرى من القارّات الأخرى. مثلاً، القِرَدة قد أفلتَتْ من بعض سفن القراصنة في القرن السابع عشر وتكاثرت في المرتفعات. والطيرُ رأتها في هجراتها من القطب إلى القطب فهبطت فيها. وقد تكون ثمار نخيل النّارجيل قد أتتْ طافية في الماء من سواحل الهند أو أماكن يابسة أخرى بعيدة ونبتَتْ على هذه الجزيرة.... وهكذا..... وهلمّ جّرّاً.
الصورة ٢ و ٣ "مراخل تطور ثمار النارجيل" . تصوير كامل جابر
لقد رأيتُ نخيلاً مثل نخيلنا ولكنه بدا كله عليلاً أصفر السَّعفِ. كُنْتُ أحسبُ أن الجزيرة تصلح لنمو نخيل الرطب لأن درجة الحرارة في الجزيرة وطبيعة الطقس فيها تقرب مما عندنا في المدن التي جئنا منها. رغم تشابه أشجار النّارجيل مع نخيل الرطب عندنا إلا أن سعف النّارجيل ليس له سُلاّء أبداً وليفهُ غنيٌّ وناعمٌ. قَصَصْتُ منه قطعة كبيرة ولم أسْتَخْشُنْها حين نمْتُ عليها. تَذكّرْتُ بستاننا. تَذكّرْتُ قَوْقَأة الفاختة في الصَّيْهُود. وتَذكّرْتُ وتَذكّرْتُ. الذكريات سكاكين تطعن في الحشا.
في الظهيرة حين توقفتْ الشمسُ في السَّماءِ إلتَمعَ السَّرابُ وإمتزج بالأبخرة المرتفعة من البحر وإختلطت صور أسراب الطير في الهواء مع السمك السابح في الماء فكأنما ذابت الياسبة في الماء وإرتفع الماء في الهواء. كأنما إمتزجت المادة في هيئاتها المختلفة في الطبيعة وفقدت خصائصها. كأنما يُعاد صهر الأشياء وسكبها معاً وإعادتها إلى اللحظة البلورية التي سَبَقَتْ لحظة التّشكّل والخلْقِ، لحظة ظهور المادة من العَدَم. كمْ وددتُ أن أذوبَ في هذا الهُلام، كينونة الأشياء قبل التَبَلْوُرِ والصَّيْرُورْة.
إن أكثر نبات شعرتُ بإنجذاب شديد نحوه هو نخيل مانِيلّا. وهذا النوع من الشجر ينبت في أماكن أخرى كثيرة ولكن لم تسنحْ لي الفرصة كي أقترب منه وألمسه بيدي وأقطف من أعذاقه الباذخة. تطلع هذه الأعذاق من عنق النخلة أو على مسافة ذراع أسفل رأسها، على عكس النخيل عندنا حيث تخرج الأعذاق بين أصول السعف في رَأسِ النخلة. هذا شجر من جنس الأدونيسيات إذا نظرت إلى ثماره من بُعْدٍ بدا لك مثل الرطب الأحمر عندنا، من النوع الذي كنا نسميه بالرطب الحابْسي الذي له حلاوة ولَذْعة، وهو أول ما ينزل في السوق من الرطب، إذا أكلت منه قليلاً شعرت بالظمأ الشديد لخاصية عجيبة في جوهره. كان صالح يحبّه ويفضلّه على سائرِ الرطب. لم أكن أستسيغ الرطب الحابْسي إلا إذا جعت جوعاً شديداً ولم أجد شيئاً آخر آكله. ثمرة الأدونيسيات لاتؤكل أو أن أغلب ثمرتها نواة كروية تحيط بها قشرة حمراء مصفرة ضئيلة. حين رأيتها أول مرة شعرت بإغراء لتذوقها إلا أن أحداً مِن سُكّان الجزيرة نهاني وحذّرني من خطرها أو هكذا قال: لا تضعْ في فمك أية ثمرة تراها تنبتُ في هذه الجزيرة. إذا إحتجتَ إلى شيء تأكله، إذهبْ إلى البقال في السوق في الشطر الهولندي. هذا سوق يأتيه السيّاح من كل مكان في الجزيرة. حين سمعتُ السوّاق أول مرة في الطرقات ينادون السابلة ويصيحون: ماهُوْ! ماهُوْ! ماهُوْ! ظننت أنهم يتكلمون بلهجتنا. هذا هو إسم ذلك السوق عندهم.
عندما هبطتُ إلى سوقِ ماهُو وجدت ثمرة الكاكايا بسبع دولارات. ليس أظرف من هيئة هذه الثمرة إلا إسمها إذْ أنها من رهْطِ الخُبْزيات أو فاكهة الخُبزِ. حين رأى خالد هذه الثمرة عند خط الإستواء قال أنها تُشبهُ الغَنَمَ ترعى في البَرِّ في الربيع. ليس هذا فَحَسْب، حين لمسها أولّ مرة ظنّها مخَدّة غطاءها من المخمل الأخضر. والناس هنا تأكلها نيئة ومطبوخة أو هكذا خَمَّنْتُ مما تبدو عليه. إشتريت ثمرة واحدة وقَدّدْتُها شرائحَ مثلما نفعل بالبانجان. حقاً هذه الثمرة كبيرة تكفي لفصيل من الرجال. لا شيء يجعلك تعزف عن التدبر والتفكّر بهذه الثمرة العجيبة إلا تذكرك حياتك أو كأن تكون عندك مقابلة عَمَل، مثلاً. وَضعتُ الشرائح في المقلاة والمقلاة على النار وقلّبْتُ بين قنوات التلفزيون صعوداً وهبوطاً خشية أن يفوتني خبرٌ من أخبار العالم. حقاً، كيف أمضيتُ الأيام السابقة دون متابعة الأخبار وتفاصيلها ودقائقها؟ عَجبتُ كيف إصْطبرْتُ ولم أخْتل وأضطرِبْ؟ ديدني منذ سنوات وأعْوام طويلة هو هكذا: أستيقظُ صباحاً وأقفزُ إلى جهاز التلفزيون والشبكة في الحاسوب أتوجّس الأخبار. هل أطْبَقَتْ السماء على الأرض؟ وأمضي ساعات العمل الطويلة مستمعاً إلى، ومتنقلاً من محطة أخبار إلى أخرى عبر المذياع. وحين أعودُ من العمل فأوّل شيء أتفقده هو الأخبار، أخبار العالم. كأنني ناطور مُوَكّل بحراسة تخوم الكوكب. أو كأني الثور الذي تقفُ كرة الأرض على قرنه، أتمايلُ مع الأخبار يميناً وشمالاً أحاذرُ أن أغفلَ فتهوى كرة العالم في فضاء سحيق.
قبل أن أغادرَ الجزيرة وقفتُ على الساحل ورأيتُ كيف تتقوّسُ السماءُ على البحر وتمتزج زُرْقَتُها بزُرْقَتِهِ. راودَنَي حَنينٌ شديد. تقمّصْتُ السندباد أو كأنني وقفتُ حيث وقفَ يستقبلُ الريح بصدره فتتحركَ سفائنه. حقاً شعرتُ بهذا. كان شعوراً أو شجى مفرطاً. أقولُ لكَ أنا لا أبالغُ في الحديث. ألسْتَ تعرفني؟ هبّتْ رياح تجارية رطيبة. آه! مثل نسيم الصبا عندنا. آه! ما أشدّ وقْع هذا. وَدَدْتُ لو كانت عندي أشرعة لأفتحها وأمخر هذا العباب. إلى أين؟ لا أعرِفُ. ركوب الموج على غير هدى. السفر دون التفكّر بعناء الوصول. آه! كأنني أشمُّ بخورَ الأريج في بُحْبُوحة الخليج. كأنني أرى رؤوسَ العمائر تشمخُ على الشُطآن. ولكن قبل وبعد كل شيء: دَفّةُ الكونِ لَنْ تسْطِيعَ تحريكاً لها والرِّيحُ أنْتَ لَسْتَ تجريها! الخيرُ كثيرٌ! تَذَكَرْ هذا! ضَعْ هذا نَصْبَ عَيْنَيْكَ! بَسْملْ الآنَ بَسْملْ!